إنجازات معفية من لبروباغاندا

جمعة, 2016-10-21 11:55

كل منتخب بما لديه يفتخر.. بعضهم يستدعي الصحفيين، يجمع من حوله عتاد البث وعدة النشر، يتم تركيب المايكروفونات، تـُبرى الأقلام، وتوجه إلى وجه "الزعيم" كل الكاميرات، وفي المونتاج تُعطى عناية خاصة للصور المكبرة. إنه "يوم الزحف"، فالعمدة سيتكلم عن إنجازاته العظيمة: استبدال لولب في حنفية قديمة.

أما البعض منهم فيجمع الأعيان والخواص والناخبين والمطبلين.. يجلس القرفصاء على مقعد وثير.. يختار أفضل "البيادق" القادرة على التضخيم وإيصال الخبر برفق إلى قمة الهرم ومراكز القرار.. يأخذ العمدة الكلام.. يسود الصمت من حوله، وتبدأ مراسيم تبجيل الذات، وتنفجر قنابل التصفيق مدوية في كل فضاء.. إنه "يوم الجهاد الأكبر"، فالعمدة سيتناول في حديثه الشيق خنشة من القمامة حُولت من البلدية المحظوظة إلى حدود بلدية أخرى أقل حظا، وهلم جرا، هلم جرا...

أما بنو بلدية ازويرات فلا حظ لهم، هذه المرة، في عمدة يعبد ذاته، ويمجد إنجازاته، ويجمع من حوله الخيل والمهندات من أجل النفير الدعائي الإعلامي الذي أضحى موضة المنتخبين والسياسيين في زماننا هذا.

وصل الشيخ ولد بايّه إلى بلدية ازويرات (عاصمة الحديد) وهي حينئذ معزولة عن باقي الوطن، لا تربطها بباقي موريتانيا أية شبكة طرق. فكر العمدة وقدّر، فإذا بالتجار والخبازين واللحامين والبنائين والمستوردين يئنون تحت وقع مبالغ ضريبية هائلة، جعلتهم محبطين، يفكرون في الهجرة بحثا عن مصدر للرزق. قرر العمدة، في سابقة من نوعها، أن يعفي كل هؤلاء من كل الضرائب والإتاوات تشجيعا لهم على البقاء خدمة للمصلحة العامة، فهم - في الحقيقة- شرايين حياة المدينة. وهكذا استفاد أصحاب المتاجر والمخابز والمحطات والورشات، واستفاد السكان من بقاء ووفرة الخدمات والمواد الضرورية. إنه إنجاز كبير ظل طي الكتمان لأن العمدة لا يريد له أن يكون محل دعاية وترويج، فهو إنما قام بما قام به خدمة لمدينته وساكنتها دون أي مقابل ملموس أو معنوي أو ضمني. ولو أن مثل هذا الإنجاز الكبير قيم به في بلدية أخرى، مهما كانت، أينما كانت، لاستجمع عمدتها قواه وأحضر جيشا من الصحفيين وأقام الدنيا على القنوات وفي المواقع، مثيرا ضجة تصك الأسماع على مدى سنة على الأقل.

تابع العمدة طريقه، وسارت قافلة الإنجازات الصامتة. وجد ولد بايّه أن ضريبة السكان التي تأخذها البلدية على منازل أحياء اسنيم تحمل في طياتها غبنا خفيا لساكنيها، فبعد التحقيق تبين أن الشركة تدفع الضريبة عن سكان منازلها، لكنها تقتطعها من رواتبهم، وبالتالي فهم يدفعون الضريبة للبلدية دون أن يدفعها باقي سكان المدينة القاطنون في منازل لا تملكها الشركة. فكر العمدة، وكعادته اتخذ قرارا مهما بالشطب على ضريبة السكن لأن الإنصاف والشفافية يجعلان من غير المعقول دفع بعض المواطنين لضريبة وإعفاء بعضهم منها. وهكذا تساوى السكان واستفاد عمال اسنيم من ذلك المبلغ المقتطع، وظل الإنجاز كسابقه طي الكتمان، لأن العمدة لا ينوي غير المصلحة العامة، ولا يريد مقابلها أي ثمن مادي أو معنوي غير وجه الله وإسعاد مواطنيه. ورغم النباح، المبحوح تارة، واصلت قافلة الإنجازات الصامتة طريقها، وظلت، كما كانت، خارج دائرة الضوء، فلا صحافة ولا مهرجانات، ولا مزمجرين.

وفي لفتة مهمة منه، اتضح للعمدة أن المواد الغذائية القادمة من الصحراء الغربية مرتفعة الأسعار (مع أهميتها لمدينة معزولة). وبعد التحقيق تبين له أن ارتفاع أسعار تلك المواد ناتج عن جمركتها البالغة 2000 أوقية للطن. وهكذا طلب إلغاء جمركتها كي يحصل عليها المواطن الزموري بأسعار معقولة، فألغيت بالفعل للمصلحة العامة: تلك التي بدا، مع الوقت، أن العمدة ظل مهووسا بها دون أن يحيطها بأية هالة دعائية شأن نظرائه. وواصلت القافلة مسيرها، غير عابئة بوسائل الإعلام ووسائط الدعاية، لأن العمدة مصر على أنه إنما يقوم بواجب مدني وقانوني وديمقراطي وشرعي، وأنه لا يريد منه أية مردودية سياسية أو معنوية، مجردة أو ملموسة.

لقد عانى سكان ازويرات من العطش على مدى عقود. حاولت الشركة أن تجد حلولا، وحاول المنتخبون إيجاد حلول. لكن كل الحلول اصطدمت بمعوقات جمة وبقيت، بالتالي، ناقصة. كانت المواشي – إبلا وأماعز- تشرب حتى الثمالة على طول السكة، فيما يستبد العطش بالبشر داخل أكبر المدن المعدنية في البلاد. فكر العمدة، واتخذ قرارا بأن يوجه للنظام طلبا بدفع اسنيم إلى إعطاء الأولوية للناس بدل الحيوانات، فطلب رئيس الجمهورية، محمد ولد عبد العزيز، من الشركة أن تستورد 35 عربة صهريجية لنقل الماء الشروب من بولنوار إلى ازويرات، ومن ثم توزيعه مجانا على السكان بحيث يصلهم عند أسرهم: من حي لحي، ومن منزل لمنزل، دون عوض مادي كما في السابق، ودون مضاربات في الأسعار كما في السابق، ودون طوابير عبثية كما في السابق، ودون وساطات كما في السابق. الأمر أصبح موضوع تندر وتهكم سائقي الصهاريج الذين يقولون ان بعض ربات الأسر، من فرط توفر الماء بعد شحه في الماضي، يقلن لهم، وهم يدقون عليهن الأبواب لإخبارهن بأن نصيبهن وصل: "تجاوزونا إلى المنزل الموالي، فنحن الآن منشغلات بمتابعة المسلسل!".. وأصر العمدة على مواصلة هذا الإنجاز رغم ما يكلف البلدية من محروقات وقطع غيار ورواتب عمال وصيانة آليات. وبعيدا من أية أضواء ورتوشات دعائية، تواصل مسلسل الإنجازات الصامتة خدمة للمواطنين خاصة الفقراء الذين استهدفتهم سياسات العمدة دعما لنهج رأس النظام الذي جعل من الفقراء عنوانا لعهده ومربط فرس استراتيجياته. 

ودخل العمدة سوق المدينة حيث يضرب التلاعب بالإيجار أطنابه، وحيث تزدحم المحلات بشكل خطير. حقق العمدة في المتاجر التابعة لبلديته، فوجد أنها مستأجرة لبعض الأشخاص بأبخس الأسعار، وأن أولئك المستأجـِـرين جعلوا من أنفسهم وسطاء واستأجروا نفس المحلات لآخرين بأسعار باهظة. وهكذا تناقصت أرباح المستأجرين الجدد، وتناقصت مداخيل البلدية من إيجار محلاتها، وربح آخرون مبالغ كبيرة على حساب المستأجرين (الذين يقومون بنشاط تجاري فعلي) وعلى حساب البلدية (المالكة). فاتخذ العمدة قرارا ذكيا بتقسيم ثمن الإيجار على ثلاثة أثلاث: ثلث يعود للتاجر (مستخدم المحل) وثلث يعود للبلدية (مالكة المحل) وثلث يعود للوسيط (صاحب العقد الأول). فربح التجار وربحت البلدية ولم يُمنع الوسيط حقه رغم ما تعود عليه من إجحاف في حق التاجر والبلدية على السواء. وفي ذات الوقت خلق الانسيابية اللازمة في حركة المرور داخل السوق المزدحم أصلا ونظمه على الشكل اللائق، مما سيمكن سيارات الإسعاف من الدخول بأمان ومما مكن الجرارات ورواد السوق من الدخول والخروج بانتظام ونظام. وتزودت القافلة بالإرادة وحب النفع العام كعادتها، وواصلت مسيرة إنجازاتها الصامتة رغم ما يعترضها في بعض الأحيان من عدم اكتراث بالمصلحة الخاصة بما يفسره بعض ضحايا تلك المصلحة بأنه تجاوز في حقهم بسبب جهلهم لمقتضيات المصلحة العامة التي تخدم الجميع دون استثناء.

وعلى نفقته الخاصة، بنى العمدة مراحيض ودورات مياه خاصة بالنساء في سوق الحضرمي.. وأعاد، على نفقته الخاصة، تأهيل عنبر سوق ديميز. ولم يعقد أي مهرجان صحفي للحديث عن ذلك، مكتفيا بالصمت والمثابرة والبناء تمشيا مع قناعاته ووفق الرؤى العامة التي من أجلها ساند النظام القائم.

ولأن العمدة يفهم الانعكاسات البيئية الخطيرة على البشر والوسط، قرر القضاء على المسلخة القديمة لعدم مسايرتها للمعايير الصحية والبيئية المعروفة، واستحداث مسلخة عصرية جديدة تستجيب للمواصفات الدولية، ومن ثم تحويلها من شرق المدينة إلى غربها تحاشيا لما تحمله الرياح من أوبئة وروائح كريهة فتاكة بصحة وسعادة المواطنين. وعلى وجه السرعة، أعد العمدة دراسة المشروع ومخطط المسلخة وسوق بيع المواشي، وبدأت البلدية في تجميع التمويلات اللازمة، ليواصل العمدة قافلة إنجازاته الصامتة الملتزمة والهادفة، بعيدا عن أبواق الدعاية وتهويل الإعلام، لكن فقط خدمة للمصلحة العامة.

ولأنه يسعى، في المقام الأول، إلى سلامة وسعادة سكان بلديته، اهتم العمدة بما تشكله المزارع المحيطة ببعض أحياء المدينة من خطر على السكان لما تجلبه من بكتيريا وروائح، ولما يتهدد المستهلكين نتيجة لريها بمياه ملوثة. كان التحدي هذه المرة كبيرا لأن كل البلديات، بل السلطات المحلية، فشلت في إيجاد حل لهذا المعضل. غير أن العمدة الحالي، الناظر إلى شؤون الناس بعين المصلحة العامة مهما كلف الثمن، وجد صيغة مقبولة لتحويل تلك المزارع إلى مشروع واحات ومزارع "اصبط" البالغ 315 هكتار، موقفا بذلك نزيف هجرة سكان الأحياء المتضررة ومأساة القاطنين الذين لا ملجأ لهم غير منازلهم الموبوءة بتبعات المساكنة مع مزارع ملوثة وخطيرة. وتحقق ما كان مستحيلا، فاستفاد المزارعون من معالجة اسنيم لمياه الصرف الصحي، وتم القضاء على معاناة مئات المواطنين المزكومين على مدى سنوات من الأذى، وتضاعف المنتوج وأصبح قابلا للاستهلاك، بل بإمكانه تحقيق الاكتفاء الذاتي للمدينة من التمور والخضروات في المستقبل، وتم مد شبكة الأنابيب ليكون بمقدورها استجلاب الماء لكل المزارع، ومُنح المزارعون 12 مليون أوقية وحاويتين من المواد الغذائية مع قرار بإعطائهم الأولوية في مساعدات البلدية، كما منحوا سيارة لاندروفر، ومقرات للإجتماع والراحة والتخزيبن، وألبسة، وبذورا، وأسمدة، ومياها صالحة للري جنـّبت المواطنين ما عانوه طيلة سنوات من التهابات الكبد والربو والأوبئة. ولم يمض وقت غير طويل حتى تحدث المستفيدون عن ما أسموه "ثورة زراعية": مياه صالحة، منتوج سليم، مردودية في تزايد، أراض مستصلحة، شبكة أنابيب كافية، وتتواصل الإنجازات الصامتة بعيدا عن الرياء الإعلامي الدعائي المقيت.

ولكي تتواصل قافلة الإنجازات، خطب العمدة الشيخ ولد بايّه أمام رئيس الجمهورية محمد ولد عبد العزيز، خلال زيارة له للمدينة، فطلب منه تخفيض ضريبة 60 أوقية عن كيلوات الكهرباء المفروضة على المواطنين. لأن المواطنين الذين تعودوا، في العقود الماضية، على مجانية الكهرباء لم يستسيغوا بيعها لهم فجأة، في ظل شركة عملاقة تستغل خيراتهم الباطنية، بـ 60 أوقية عن الكيلوات. وتمشيا مع سياسة النظام في محاربة الفقر ومؤازرة الفقراء، قرر رئيس الجمهورية تخفيض سعر الكيلو إلى النصف. إلا أن بعض المواطنين اشتكوا من الضرائب المصاحبة للفواتير، وبمساع من العمدة ألغيت عنهم بأكملها. وغابت الترويجات والتلميعات، ولم نسمع في المواقع والقنوات طنينا أو طنطنة عن إنجازات الرجل الصموت الكتوم. فالوقت بالنسبة له ليس إلا للعمل على أرض الواقع خدمة للمصالح العامة، هكذا سارع إلى خلق نشاطات مدرة للدخل عن طريق وكالة التضامن، فاستفادت منها أسرة بوجمعة (وما أدراك ما هي!) لتصبح مالكة لمشروع للغاز، كما استفادت منها جميع الشرائح المهتمة بالحجارة المستخدمة في مجال البناء وبعض النشاطات التجارية والتعاونية.

ولأنه يعرف مدى ارتباط المجتمع بقيمه الدينية، لم يغفل العمدة أحلام المسنين المهمومة في غالبيتها بالحج إلى بيت الله الحرام، فتكفل بنفقات 11 حاجا من أهل المدينة في السنة الأولى، وتكفل بنفقات 7 آخرين في السنة الثانية. وكالعادة: لا ضجيج، لا لافتات، لا عناوين عريضة في كبريات الصحف. الأمر في غاية البساطة بالنسبة للعمدة لأنه واجب، وفقط واجب. وتواصل القافلة سيرها دون أن تزعجها التقولات والأقاويل.

ولأن العمدة يعرف قيمة العلم والتعليم، ويعرف كم يعاني المساكين من تسرب مدرسي لأبنائهم بفعل غياب الإمكانات، تكفل بـ 250 تلميذا يتيما أو ابن فقراء محتاجين (بعد التحقيق الموضوعي الشفاف). وظل هؤلاء يستفيدون، على مدى السنة الدراسية، من وجبتي الغداء والفطور، تماما كما قدم منحا نقدية لبعض أفقر طلاب الجامعة المنحدرين من بلديته. وكالعادة لم تحضر المايكروفونات وعدسات التصوير. بل سارع العمدة، بدلا من ذلك، إلى إنشاء هيئة صحية تتكفل بأمراض السيليكوز والأمراض المرتبطة بالعمل في المناجم، كما تتكفل بأرامل وأيتام ضحايا تلك الأمراض. وفي ذات السياق الصحي، جهز العمدة مركز استطباب المدينة بالأجهزة والمعدات اللازمة وبوحدة لجراحة الأسنان مستجلبة في إطار الشراكة مع الرابطة الفرنسية لأصدقاء افديرك وتيرس الزمور، كما استجاب رئيس الجمهورية لطلب قدمه له بمنح المركز وحدة لغسيل الكلى وجهاز اسكاينير. وبالتعاون مع "رُحّل موريتانيا" منح العمدة للمركز سيارة إسعاف. وكما هي العادة، غابت الدبلجة والمونتاجات وشعارات الاستهلاك السياسي.

وفي إطار محاربة المواد المخدرة في مدينة حدودية تشهد تطورا حضريا متسارعا، أطلق العمدة مشروعا وطنيا لمحاربة المخدرات في الوسط المدرسي، شارك في صياغة استراتيجيته علماء ووزراء ومختصون، كما اختط، في صمته المثابر الفعال، استراتيجية لمحاربة السيدا في إطار تنفيذ بنود إعلان باريس المتعلق بالقضاء على الأيدز.

وفي مجال الرياضة، استجلبت اتحادية كرة القدم، بطلب من العمدة، نجيلة لملعب ازويرات الجديد، وعبر عن استعداده لدعم فريق الكديه، وسار عمليا على ذلك النحو، لولا عقبات تتعلق بالنادي نفسه.

وفي سابقة مشهودة، أدخل العمدة خدمة السيارات ثلاثية العجلات في عمل البلدية المتعلق بنقل القمامات دون أن يحيل إلى البطالة ملاك جرارات الحمير الذين كانوا مكلفين بتلك المهمة. لقد تعاقد مع مكونين كونوا أصحاب الحمير على سياقة السيارات الثلاثية وخصص بعضها لحمل القمامة وبعضها لنقل اللحوم في ظروف صحية جيدة. ورغم أن العمدة غيّر وطور استراتيجية النظافة، فقد حافظ على طواقمها تشبثا منه بمصالح الفئات الهشة. وفي تعليق لاذع لأحد المعجبين بإنجازات ولد بايّه، راج في المدينة، خاصة عندما استجلب ثلاثيات العجلات، أن "عهد الحمير قد ولّى".

ولأن ولد بايّه يمثل العمدة الأجدر بهذا الوصف، انطلاقا من إنجازاته الملموسة وخدمته الحصرية للمصلحة العامة، انتخبه العمد الموريتانيون رئيسا لرابطتهم، كما اختير عن جدارة عضوا بارزا في الرابطة الدولية للعمد لفرانكوفونيين.

كما انتخب نائبا لرئيس الاتحاد الأفريقي للمدن والحكومات المحلية CGLU Afrique مكلفا بإفريقيا الشمالية. 

وباختصار شديد، فإن عمدة ازويرات ابتعد كل البعد من الترويج لنفسه، واقترب كل القرب من هموم وآهات ومصالح المواطنين، محطما الرقم القياسي في احتقار  ما دأب عليه نظراؤه من ابروباغاندا.

ازويرات ميديا