سؤال الدولة الموريتانية / د. باب أحمد الشيخ سيديا

أربعاء, 2017-03-01 22:22

لم  يكن المجال الموريتاني يوما ما خاضعا لسلطة مركزية رغم تداول الأيام والسنين، وإن ظل كحال مجتمعات مماثلة في النمط والسلوك يسير أحواله وفق مقاس النازل و المستجد الذي يحتاج حكما  أو قولا يقتضي  تجاوزه   في لحظته تلك التي أنتجته وسياقه الذي انبثق عنه.

تلك اشكالية ليست بالطارئ على الأقل في شموليتها وطرحها العام،

 وإن كانت جديدة على مستوى التناول ودراسة التراكم المعرفي الذي أنتجته على مستويات العقليات، وما تركت من آثار  في مستوي التفكير السلطوي الآسر  بطبعه للنخب المعرفية والمنتجة الكثير من المؤلفات في إطارها العام التنظيري حتى لا أقول الفلسفي  حوله . فالمنتج المحلي في هذا المجال كان إفرازا ونتيجة منطقية لنوع من التقية الممارسة في ثوب الشرعية المتاحة في ظل عدم وجود  الإمام الجامع للأمة وما يترتب عليه من أحكام شرعية ومقتضيات تقتضي النظر في ترتيب الأولويات والنظر  في المقاصد المنضوية عليه.
لذا فإن مبحث الدولة في السياق الموريتاني  ليس بالمستجد على الأقل من الناحية النظرية في المباحث الفقهية والنوازلية، وإن كان جديدا على مستوى الطرح و التفاعل حين التأسيس، فلم يكن المشروع الوليد في ستينيات القرن الماضي واجد الأرضية الملائمة لانسيابيته  وتحركه  لإقامة نموذج يعتمد على مقاربات شمولية  تستدعى المفاهيم المعاصرة من قبيل "الدولة " و "الحقوق المدنية"في مجتمع يتسم بالبعد  القبلي  والمناطقي حين الضرورة والأزمات لتوظف  الأيام والأنساب وفق  قوالب تستدعي الضمير الأهلي ضمن إطار  بنيوي عميق لمجموعة من العلاقات الوظائفية والمصالح المتجسدة في نظام متبع من أبناء القبيلة دفعا عن  المشروعية التاريخية والاجتماعية.
ولما كانت الدولة  الحديثة  في معطياتها الطبيعية هي إعادة استثمار لمصطلحات ومفاهيم أعدت مسبقا لمجتمعات مخالفة في الملة والعقائد، وهي استنساخ للمشروع الغربي بمفهومه الواسع بما يضع من شروط مخالفة للنموذج الإسلامي.
ثارت أقلام المفكرين والباحثين في العالم العربي  حول أي الوسائل أنسب لإعادة أنمذجته في إطار الدول المستحدثة والحديثة العهد بالاستقلال، والحق أن هذا الإشكال ظل عويصا على التطبيق  بما يتناسب مع الملل والنحل الموجودة في هذا الفضاء، على الرغم من ترتيب الأولويات لكل سياق جغرافي معين.
وهو أمر وضع الكثير من الأسئلة حول هذه الكيانات الوليدة خصوصا في مسارها  الطبيعي الذي يجب أن تنتهج، فلا النموذج الخلافي هو أمر أعدت له الأسباب الوجيهة لقيامه نظرا لأسباب  التفرقة والتفرد في الحكم، ولا النموذج الآخر الغربي هو حائز على القبول لعلمنة الدولة من جهة وابتعادها عن الدين،  فالدولة الغربية هي نتاج لصراع مرير  مع السلطة الكنسية و  تحالف الارستقراطية معها.
من هذا المنظور  تشكلت المعضلة  الحقيقية والاختلافات الجذرية  في تبني المنطلقات و المسارات الموحدة والسياقات الشاملة لها بين المجالين،  مما غاب عنه إمكانية  التأسيس  لنموذج جامع بين الخيارين، وإن كان على حساب الآخر المغلوب على أمره، أو المختلف عن الآخر في مساره وتشكل أنماط حكمه، وهو ما نتج عنه  سيل من  المتناقضات لسنا هنا بصدد  إعطاء حكم قيمي  حولها  ولا تمييز  بعضها عن البعض بقدر ما هو إثارة  للنقاش المتجدد  حول نشأتها وما قدمت لمجتمعاتها من أسباب الرفاهية والبقاء لأفرادها إحساسا بالمسؤولية الأخلاقية التي تفرض تماهيا وسلوكا مغايرا للفرد ضمن سياقه المجالي الضيق . 
و الحق أن هذا النموذج  الملهم في إطار الكيانات الوليدة هو أمر من الاستحالة  تطبيقه بمكان في مجتمعات  صحراوية كحال مجتمعاتنا  ترفض مفهوم الدولة  في أصولها التراثية الداعية إلي مقاطعته خوفا من هلاك مبرم يحدق بالأمة حين اقتدائها بالآخر الغربي المخالف ملة وعقيدة ، لذا فإن استدعاء الضمير الجمعي  والاصطفاف حوله  سيكون حاضرا ومؤثرا بشكل  لا مراء فيه على المسا ر  المتخذ في هذا الإطار.
ولا نعني هنا ضرورة الدولة في معناها اللغوي الآثر  والمعروف في المعاجم العربية حين تداوله وإظهاره، لأن الأمر لا يتعلق هنا بمسألة التداول بقدر  ما هي أنماط في الحكم وسياسية للرعية مكتملة العناصر والأدوات للتسيير  وإظهار المواقف . كما أن المفهوم المعالج هنا كان نتيجة لفلسفة تنويرية و صراعات مريرة أنتجتها وأفرزتها وأثرت في مسارها بشكل بنيوي بطيئ، لتستقر على شكلها النهائي في القرن التاسع عشر بعدما حددت الهويات والأقاليم و  المعايير  التي  تحكم وفقها الرعية وتساس بها الأمور.
ولعل أكثر هذه القضايا تعقيدا وبروزا هي إشكالية  عدم الاستعداد  الشعبي الجارف للانخراط في إطار  الكيان الجديد لتغليب مصلحة الجماعة بما تتيح من منافع دنيوية آنية تجعل المرء منسجما في فضائه السمح وفق قوالب متأسسة على معطيات شرعية تغلب مفهوم الجماعة وتجعل الخارج عن النسق  في منزلة الفساق والمارقين.
ولا تبدو الفكرة هنا نشازا  في مسارها عندما تبني على مصطلحات  شرعية من قبيل يد الله مع الجماعة ومن فرق يد الجماعة فقد باء بإثم عظيم، ومن الطبيعي جدا أن التحوير  وأيدي الاجتهادات البشرية قد مست كثيرا هذه النصوص وجعلتها على مقاس من الأرض السائبة أو التي لا سلطان فيها.
بالتالي فالجماعة هنا تعنى الثلاثة بدءا وانتهاء إلى مجال جغرافي معين بذاته مفرغة من محتواها الطبيعي والآسر  في الثقافة العربية الإسلامية.
ورغم أن الدولة الموريتانية في مسارها  الاستقلالي حاولت التغلب قدر الإمكان على هذه العلاقة بخلق مسار تنموي وتثقيفي يجعل للعلاقات العشائرية بدائل نفعية  وأساليب بالمقابل ردعية تحتم اللجوء إلى الدولة  بوصفها المؤطر  و الموجه للخيارات الشعبية الجارفة والداعم لها حين الأزمات ، إلا أن دور السلطة القبلية ظل نافذا ومقيدا لكثير من المشاريع التنموية مما تكثر دواعيه وتتشعب فلم تكن المطالب المتكررة استدعاء لمطلب اجتماعي ولا هو استكناه لمشروع مستقبلي في إطار  وأد الكيانات الموازية ليس بقرار رسمي بطبيعة الحال وإن كانت بوضع  البدائل الكفيلة بذالك.
ولا يبدو  الاقتناع كافيا بمسار الدولة ولا تراكميتها التي تشكلت وفقها وما خطت لنفسها من نفس مخالف لما كان سائدا من علاقات وتحالفات تطبعها العشائرية المستهلكة في المحيط منذ قرون تتوارث وتتشكل وفق  اللحظات المادية التي تنتجها وتؤثر في مسارها.
ولم يكن  المعطي الوظيفي الساعي إلي  خلق بنية وظائفية تحتم نوعا من التراتبية الجديدة تجاوزا للأنساق القديمة وهدما لها، هو أمر ذو بال في تحول العقليات وأنماط تفكيرها  بل سرعان  ما وأد لتبقي القوانين في حكم العالق الذي لا يحكم به ولا يؤثر في بنية وتشكل الدولة.
ولا يظهر  النظام الحزبي مقنعا في تحركاته  لإسقاط التابوهات القديمة بقدر ما كان إظهارا لها واعتمادا عليها حين المواسم الانتخابية أو المنافع التي يتحصل عليها وفق قوالب حتمتها المعاصرة والتحالفات والقوانين الدولية. فقد ظلت الأدوات  هي نفسها المطبقة في عدم التفاعل مع الظاهرة  الحزبية المعاصرة بوصفها الأداة التعبيرية التي يمكن من خلالها حل المشكلات ووضع السياسات المستقبلية للمشروع وحمايته من كل المحدقات والعوارض التي قد تعترضه.
ولعل المسألة الأكثر   تعقيدا والتي تظهر  مقلقة هي عدم حسم الهوية في شكل معين لتعدد الهويات والأفكار حول نشأة الدولة وحتى حول تواريخها المؤسسة  لها وهو أمر بالغ  الخطورة في عدم وجود توافق على الثوابت ـ  ولنغض الطرف قليلا عن التحليل أو المقاربة التي يود قارئ ما أو كاتب تحليل المجتمع وفقها ـ ، إلا أن  الأكيد هنا هو عدم وجودها في توافق معين مكتوب أو ضمني مما تكثر معه الأقاويل والأحاديث والتواريخ الأهلية المحلية المنشورة والمتداولة، والحق أن هذه  الظاهرة يجب الانتباه إليها خصوصا في المجتمعات القبلية المستلهمة لتواريخها والمكونة وفقها الباحثين والمؤلفين والأدباء مما يتنافي وعصرنة الدولة وقيامها على أسس معينة يتفق حولها الجميع ويتفاني فيها، خصوصا في المجتمع المتعدد  والمتنوع مما يثير  خصوبة وآراء مختلفة قد تكون منبعا للتواصل وخلق أساس متين إذا ما روعيت الأسباب الكفيلة بخلقه في جو من التعدد الذي لا يفسد للود قضية،  بقدر ما ينتج مجتمعا ناضجا منسجما يتجاوز تواريخه الظلامية إلى تواريخ أكثر إنصافا وواقعية.
والحق هنا أن  النظر في المظالم التاريخية والوقائع الفئوي الذي أنتجته يحتاج إلي مقاربات سريعة تبني على رؤية ناضجة  ترعاها النخبة المثقفة جميعا من خلال المؤتمرات و الندوات وخلق الوسائل الردعية والنفعية في الآن نفسه. ولعل التعليم يبدو هنا أكثر المطالب الملحة والسريعة الأخذ بها بدون تفرقة ولا حساسيات آنية قد تكون أفسدت الكثير من السياسات التي أنتجت في هذا المجال مما زاد الطين بلة وعقد حلول بعض القضايا لتعدد الفاعلين والمؤثرين في مسارها. وهو ما خلق ـ حسب نظرنا ـ مقاربات جديدة استدعت الرجوع إلى الأنماط القديمة وتكيفها مع الواقع الجديد حين التكفل بالإنسان وقضاياه في مجتمعه الضيق، والرجوع إليه حين الأزمات والقلاقل. مهما كان نوعها أو طبيعة حلها.
لذا فإن مطلب الدولة المتصالحة مع تاريخها الناظرة بشكل مشرق إلى أيامها المستقبلية تحتاج الكثير  من المراجعات المتأنية في مسارها الذي تشكلت وفقه بدون غبن ولا  إقصاء لأي رأي مهما كان نوعه  ونشازه لترسو الأماني والأحلام  بشكل هادئ بعيدا عن الأجواء المتلاطمة والمهاترات اللحظية.