قراءة في كتاب الشاه : زارا.. في مدينة العجائب..!/

جمعة, 2018-11-16 11:24

زارا؛ في مدينة العجائب (كما تُبيّن الصورة أسفله) عنوانٌ لكتابٍ أدبي ثوري مُدهش ألّفه أ. محمد الأمين الشاه بحيثُ يندر مثيله في أرضنا الثقافية-التأليفية الشبه الجرداء، الكتاب ظهر مع باكورة هبوب ريّاح الوعي-الجزئي عندنا، إذْ أنّ ص
احبه كان قد كتبه العام الـ 92 من القرن الماضي، حين كان يومئذٍ في أوّج إنتمائه اليساري الثوري. أيْ قبل أن يسير به الحالُ إلى نكوص انحطاطي عجيب، ظهرتْ بداياته حين أرتدّ في فكره وتمرده الثوري، فصار يكتبُ ماهو من قبيل " البرهان في حُرمة التدخين "!
ومع أني سبقَ وأن سمعتُ عن إشادةٍ بالكتاب ذاتَ مجلسٍ نِقاشي إلا أني لم أهتم به يومها، وإنْ كنتُ لم أجد إليه سبيلاً، هذا لندرته في مكتباتنا، مايرجعُ لعوامل كثيرة منها نفاذ طبعته الوحيدة القديمة، ثم فقر مكتباتنا من حيثُ وفرة المادة الكتبيّة، كما الأمر على عكسه في العالم الآخر.
وقبل أيّام أربعة، وبينما أنا مارٌ بأحد الكتبيين الصِغار ( من الذين تدين لهم مكتبتي المتواضعة بالكثير من الشكر. هذا، لِما قام به من تسخير لبعض الجواهر الثمينة) شرق سوق العاصمة السائر إلى السقوط، حتى فوجئتُ به موضوعاً على الرّف صُحبة بعض الكتب الأخرى. لأشتريه ساعتها ب 700 أوقيّة. ظلّت بنظري أنا الخالي الجيب لاتُساويه ككنز ثمين رغماً عن الاستعمال القبليّ له من طرف أحدهم.
- في خفايا العنوان :
العنوان هو المدخل المفتاحي للنّص، أيّ نص كان؟ خاصة إنْ كان النّص كهذا النّص، البديع الأسلوب، العميق الأبعاد، الثوريّ الغائية. لذلك يلزمُ دائماً، النّظر فيه، على نحوٍ تفكيكي، تمهيداً للولوج نحو عوالم النص التي يدور حولها.
وتطبيقُ ذلك على هذا النص مُغامرة جزُافية خطيرة، ليس لاستحالة العنوان على ذلك الأمر، بل لأن أيَ محاولة لذلك، وإن كانت أهميتها، تبقى لاتفيه حقه في القراءة التفكيكية، التشريحية. هذا نظراً للثراء المتعدّد الجوانب المُتمتع به.
-من هو زارا ؟
في الصحفة الثانية من الكتاب الحاوي ل 146 صفحة ثرية المضمون، حسنة الشكل، جيّدة الطبع. يأتي هذا التعريف الموجز لبطل النّص زارا، وهو الآتي: " زارا صوت الحقيقة، وأبا الضعفاء والمسحوقين، وهو رجلٌ صالحٌ جوال نشأ وعاش على التجوال. يضربُ في الأرض مُسافراً أبدياً، آلى على نفسه قول الحقيقة، واضطلع بمهمة الاصلاح لا تأخذه في اللّه لومة لائم. يُحارب الكذب والخديعة، ويكشفُ الزيف " إنّ زارا كما يُبين هذا التعريف الأولي هو درويش رحال، لايستقرُ في مكان معيّن، إذْ هو يجوب أرض اللّه الشاسعة رغبةً في الإصلاح، وتثوير ساكني المدن التي يمرُّ بها على واقعهم الفاسد في نواحيه العديدة، هكذا هي عادته العظيمة. إذن، إنّ زارا بعد أن بحث عن المعنى. وظفر به، نذر نفسه لتجذير ذلك المعنى في أرض العالمين جميعاً. خدمةً للحقيقة العالية، وإنتصاراً لقيم الحق والجمال والحريّة .
يبدو الستيني زارا، ذا اللّحية البيضاء الكثة. والوجه الحليم، والعقل المتقد، والعاطفة الواعية،وسِفره الكبير المحمول على ظهره؛ كمثل نبي سقطَ فجأة على الارض، حاملاً رسالته الثوريّة، ناشراً لتعالميها المتنورة.
وتلك تبدو حقيقة زارا الغامضة، إنّه مثقفٌ غريب. ينشد الحريّة والعدالة الاجتماعية، في كلّ الأرض، لاينتمي لبلادٍ دون أخرى، فهمومه الكونيّة جعلته يتعالى على ماهو دونها.
لكن، أيضاً. لايخفى على ذي قراءاتٍ واسعة قليلاً. من بداية هذا الكتاب؛ المقاماتي الأسلوب، القصصي التقسيم، أنّ ولد الشاه يتستوحي في شخص بطل كتابه هذا بطل كتاب نيتشه المشهور، أعني، زارادشت. في "هكذا تكلم زارادشت" فالإثنان متشابهان الرسالة، والفكر، والقضيّة. وإن كان زارا الشاه لبس لباساً شخصاً محلياً، في عُمق نفسه، وأساس عاطفته. بحيثُ ظهر كما لو أنّه ينحدرُ من هذه الأرض هذا لشدّة فناء طابعها فيه.
وهذا لايخفى على القارئ منذ الصفحات الأولى، ليتأكد له الأمر عند الصفحة 117 من الكتاب في فصل بعنوان " مُبذرون" حين يُضيف الشاه في أولّ أسطر الفصل " دشت" ل "زارا" التي بدت مُجردة في 116 صفحة سابقة من الكتاب. هذا ليتّيقن القارئ أخيراً، من التشابه الحاصل في الشخصين على جميع المستويات، حينما يُنهي الشاه فصله هذا على لسان أحد أتباع زارا قوله بعد إنتهاء مُحاضرة كان زارا يُلقيها في ساحة مدينة العجائب " هكذا تكلم زارا دشت" .
إنّه إذا، تشابه مُحير، لاينطبقُ فقط عليه في تماثله مع بطل نيتشه، بل أيضاً نبي جبران، ومرداد نعيمة. هذا، إلا أنّ زارا الشاه يبقى مُختلفاً، قدراً ما، ينتمي لشخص الشاه في حالةٍ من التناوب الخيالي/ التجسيدي العجيب في الدور.
- مدينة الفجائب، ماهي؟
لاشك أنّ ولد الشاه في خياله المُبدع، كان يُريد من مدينة العجائب أن تُطابق واقعنا الكارثي، وربّما، هي أنواكشوط، هذا مايتضح لنا كثيراُ من خلال التشابه في الخصائص والسمات المُشتركة بين المدينتين، ولكن، لنقرأ ماكتبه ولد الشاه عنها في بداية كتابه البديع هذا بشكلٍ رمزي واقعي مُدهش؛ من أواخر الصفحة 11 حتى بداية الصفحة 12 يأتي هذا التعريف العبقري: " إنّها مدينة غريبة الأطوار، مُختلفة عن باقي المُدن والأمصار، أوجدها ربها بوادٍ غير ذي زرع، وفي سهولٍ غير ذاتِ عنبٍ أو برتقال، أراضيها قاحلة، غبراء، جرداء، لاتعرفُ المطر إلا قليلاً، فيها الزوابع الرملية معولة، ليلا ونهاراً، وريح السموم تصفعها بكرةً واصيلاً، وكان زمن المدينة مُختلفاً. يتمطى مليئاً بالانحناءات، والتمرلات، والغضون، وأهلها مُختلفون مؤسسون على الاختلاف والتمايز، فمنهم قومٌ كالحرباء، تختلفُ أوالنهم باختلاف ساعات النهار، لكل ساعةٍ لون، وآخرون يدورن مع الشمس حيثُ دارات ويميلون مع الشمس حيثُ تميل.
ومنهم قومٌ يسيرون منبطحين، ينسابون كالثعابين. ونسناسون، لكل واحد منهم نصفُ رأس، ونصفُ صدر، ورجلٍ واحدة. وإذا وجدوا من يمشي مستوياً على قدمين، سخروا منه وتغامزوا عليه، وربما بادروا إليه ليصرعوه ويعلموه الانسياب وفن الانبطاح، والمشي على البطن. وكان لسكان المدينة رغم اختلاف أشكالهم وتباين طباعهم مسلكيات غريبة، وعادت وتقاليد عجيبة. هم فبها مُشتركون ، وقد ألفوا الفاحشة السياسية والمناكر الأخلاقية، والجرائم الإقتصادية، يأتونها جهاراً ماسبقهم بها أحدٌ من العالمين.. يُؤمنون بمبدأ الطابع الثابتة والصفات الراسخة، وللخرافات والأباطيل يُصدّقون "
إلى آخر التعريف الرمزي/الواقعي البديع، في وصف واقع هذه المدينة الكارثي، وحال أهلها الرديء. وهو تعريفٌ قابل للاسقاط على واقعنا يومها، وحتى هذه اللّحظة التي مازلنا فيها نٌعاني الدّاء بأشكاله المتنوعة.
- جُغرافيا الكتاب ومداراته :
فهمنا كم أنّ شخص ( زارا) يُشكل حالة رثائية في مدينة العجائب المُنفرة لمثقف تلك الأيّام، الملتزم، مُتجسداً في مُحمد الامين الشاه ومن سار على طريقه. في نقد الواقع الكارثي في كلّ جوانبه رغبةً في الثورة/ الاصلاح.
لكن ماذا عن الكتاب؟ إنّ الكتاب وثيقة شهود فاضحة، تختصرُ مُعاناة مثقف تلك الأيّام، في محاولة تكرار سيزيفية من أجل التأقلم مع واقع فاسد، ممسوخ، مشوّه، كارثي، رديء، واقع نبذيّ لشخص المثقف فيه المُعاني.
هذا مايظهر لنا واضحاً، حينُ نجوب جُغرافياً الكتاب المّارِ عليها، بشكلٍ متأني كيّس. إذ في الكتاب يختلطُ الواقعي بالخيالي، السياسي بالثقافي، في حالة من التناول النّقدي الجسور، فالكتاب بفصوله الشبه قصصية ال34 يكادُ لايترك مسألة إلا وتطرق لها على لسان بطله زارا، سواءٌ في نقاشٍ له مع تلميذه العاشق النجيب عِصام، وسواءٌ حين يأتيه أهلُ مدينة العجائب مُتسائلين حول أمرٍ حياتي ما ليتجه معهم نحو الساحة العامة فيُبين لهم سلبياته قبل إيجابياته .
فنرى زارا يتحدثُ لهم عن القبيلة، ناقداً لها كنمنظومة اجماعية رجعية تُعيق تمكن الدولة الواقعي ، ثم نراه أيضاً يتحدث حول ضرورة الثورة على الاستبداد السياسي وسلوكيات التخلف الاجتماعي الفاسدة، إنّه يتحدث أيضاً عن فساد ونفاق أصحاب الجمعيات الخيرية، وكذلك المثقفين والفقهاء والفنانين المنفعاتيين بلغة نقدية شديدة. .
كما أنّه كذلك تحدّث عن ضرورة ولوج عالم الحداثة، دون الانخداع بالامبريالية واتباعها، إذ أن العدالة الاجتماعية ينبغي أن تشكل هاجساً مطلبياً هامّا لديهم بعد أن يقضوا على الرشوة، وغيرها من المسلكيات الفاسدة، وكان من غريب الأمر أنّه تحدث لهم عن النقد الادبي والادب الشعبي والانتقاضة الفلسطينية، ثم عن نزار قباني، وديميوس، والاستشراق، ودرويش، وأدونيس، ثم رولان بارت، وقبلهم الجرحاني، ابن عبد ربه.
هذا، ليتحدث في فصول أخرى عن التسامح، تحرير المرأة، هدم التابوهات الاجتماعية، ضرورة التروحن، شرعنة الحب الثنائي المُتبادل، وغير من أمورٍ كثيرة، كحالة شطح الصوفي والوله العشقي عند تلميذه الذكي عِصام.
- هل غيّر زارا مدينة العجائب الغريبة الأطوار؟
ظهر الكتاب في ظرف قلِق، له سِماته الخاصة من تاريخنا الوطني، إنّه ظرف ماقبل حلول القرن العشرين، في التسعينات، يوم كان النّظام الطائعي-الاستبدادي مُهيمنا، كما كل القوى الرجعيّة، كما الآن، مثل القبيلة، والحقُ أنّ شيئاً لم يتغير، فما زلنا تحتَ وطأة الأحذية الثقيلة المُساة العسكر، في نظام استبدادي فاسد، تقفُ القبيلة بجانبه، ويعتمدها سنداً مُهما تقفُ دون الخروج عليه من لدن الشعب المنتمي إليها، بل إنّها تُشرعن له فساده الاجرامي المُتزايد.
أيْ أنّ مدينة العجائب لم تتغيّر مُطلقاً، منذُ يوم قدِم عليها زارا الثائر حتى هذه اللّحظة من تاريخها الأسود، لقد تمتْ مُضايقة زارا في مُحاولته اصلاح مدينة العجائب، الغريبة الأطوار يوم مرّ بها مُتجولاً، فكان أن أمضى زمنا ظانا أن دعوته ستأتي أكلها، لكن هيهات، لقد صار لزارا منذُ أيامه الأولى أتباعاً، وهم قلة، رغم أولئك الذين يُناهضونه ويكيدونه له المكائد برعاية القبائل وشيوخها المتجبرين، آه، إنّه قدر الثورة التعيس؟
لقد تمت مُضايقة زارا النبي الرحال المنبوذ، بكل الطرق، فهاجموه، وصبوا عليه اللّعنة، وجمعوا فقهاء المدينة فحكموا عليه بالكفر، ومُحاولة زرع الفتنة، وهو الذي جاء رغبة في الاصلاح والتغيير.
مع أنّ لزارا أتباعٌ في المدينة، ينشرون قوله، ويَتبعون سلوكه القويم، إلا أنّ ذلك لم يجعل دعوته تأتي أكلها بالشكل المتوقع منه قبلهم، فقد أصابه الاحباط، فصار يعتقد باستحالة تغيّر ذلك الواقع، بعد حاكم المجرمين والمفسدين عليه.
إنّه الآن يُفكر في الرّحيل، استئنافاً لرحلته، إنّه نبيّ غريب، ذاهبٌ لمواصلة رحلته، علّه يجد في مكانٍ ما، من الأرض الشاسعة، من يفهم دعواه الاصلاحية ويطبقها على واقعه رغبةً في الثورة، النّور.
وقبل أن يُغادر مدينة العجائب، كان قراره بأن يكون ختامه بها ختاماً مِسكاً، فكان أن ذهب مع تلميذه العاشق عِصام ليجمع بينه وحبيته نرجس، بعد أن وقع المُجتمع بعاداته البالية حاجزاً بينهم، من عاشقان ولهان. ردحاً طويلاً من الزّمن، وقد جمع بينهم حقاً، رغم إكراهات الواقع الصعبة. ففاز الحبُّ أبداً.
إنّ زارا يفشل، يُضايق في دعوته، لكنه. يبقى ثابتاً على قضيته الثوريّة لعل الله يُخرج من أصلابهم من يتمرد، يثور، يعلن الرفض، التمرد على الفساد، الزّيف، الاجرام. السلطات الرجعيّة الكافرة بالإنسان... لك المُجدُ يازارا
مرةً أخرى، يامدينة العجائب الغريبة الأطوار، مرةً أخرى..!
تم النشر قبل 15th January 2015 بواسطة Ali Demine