التمسك بلغة " موليير" انقلاب على الدستور واللغة العربية / محمد الامين باباه ديداه

سبت, 2018-12-29 20:16

شهدت السنوات الأخيرة عزوفا ملحوظا عن اللغة العربية ، وهجرا لها ، ومقاطعة من بعض الطلاب والأساتذة والمعلمين وحتى من القائمين على العملية التربويةأنفسهم، والمؤسسين لها،والواضعين للخطوط العريضة ، و الخطط المستقبلية للبلد بشكل عام.

ولا يخفى أن ثقل المسؤولية الكاملة في هذا الشأن بصفة مباشرة يقع على عاتق بعض العلماء والأساتذة والمعلمين والسياسيين والأطر ورجال الأعمال وغيرهم من أصحاب الدولة العميقة من كافة أطياف الشعب الموريتاني ،وشتى صنوفه .

تجسد ذلك العزوف أساسا حول عدم المحبة والقراءة لها ، والاهتمام ، وفرضها ، والتحدث بها داخل الادارات، والمؤسسات العمومية والخصوصية .

ويتأكد ذلك العزوف والهجر من الذين يدركون أدنى مستوى من لغة موليير ، وهو الأمر الذي يعد دليلا قاطعا على عدم الوطنية و المحافظة على الموروث الثقافي والاخلاقي والديني ، والاجتماعي ، لهذا الشعب المسلم برمته.

إضافة إلى ذلك الجرم العظيم ؛

فإن العزوف والهجر عن اللغة العربية ليس مختصرا فقط على الاساء الدينية والاخلاقية والاجتماعية ، بل يعد مخالفة صريحة للمادة السادسة من الدستور الموريتاني التي تنص حرفيا على أن : " اللغات الوطنية هي العربية والبولارية والسوننكية والولفية،اللغة الرسمية هي العربية "

من هنا نستطيع القول بأن التمسك بلغة "موليير" انقلاب على الدستور واللغة العربية ؛ لأن ذلك التمسك لم يكن اعتباطيا ، ولا آتيا من فراغ ؛ وإنما جاء نتيجة لغزو فكري منظم، ومخطط مدروس يهدف بطريقة ، أو بأخرى للقضاء على لغة القرآن ، والتخلص منها ، ووضعها في سلة المهملات حتى تكون من الماضي .

وإذا نظرنا إلى هذه المادة من الدستور التى تنص على اللغات الرسمية للبلد نجد أن لغة موليير لم تكن من ضمنها إطلاقا ، لكن ربما ترسخت فينا بدوافع عدة ، وعوامل متضافرة تتلخص في نبذ كل مايحسب من الماضي، وضرب عرض الحائط به مهما كانت قيمته وفائدته .

ومع امتداد فكر القطيعة مع الماضي وتطوره ، وتزامنا للنموالتكنولوجي المتسارع ، وخنوعا للغزو الفكري الفرنسي ؛ توجهت الأنظار إلى اللغة الفرنسية ؛ وانشغل بها الجميع نساء ورجالا شيوخا وأطفالا .

وكان ذلك التوجه على حساب لغتنا الجميلة ، والثقافة والهوية الأصيلة ، وكأن أنثى "موليير " هي الجنس المؤنث الفريد ، والفتاة الوحيدة ذات النعومة ، والبضة ، والعبقرة ، والبهنكة والهيفاء ، والرشوف ، والأنونوف ، إلى غير ذلك من من أوصاف المرأة الجمالية في لغة العرب.

إذ أن لسان حال أغلب نخبنا وساستنا انطبع في ذهنه واستقر في ذاكرته ، مما لايدع مجالا للشك أن تلك الأنثى(اللغة الفرنسية ) بقيت عندنا من سبايا مخلفات الاستعمار، ومجابهته ؛ حيث أغرم الجميع بحبها وعشقها ، كما عبروا عن تبنيها ، والتمسك بها واستحسانها وقبولها ، وجعلها متجذرة في أصولنا وفروعنا كأم وأخت وزوجة... وكأنهم متمثلون تجاهها بقول قيس بن الملوح :

وَقالوا لَو تَشاءُ سَلَوتَ عَنها*فَقُلتَ لَهُم فَإِنّي لا أَشاءُ

وَكَيفَ وَحُبُّها عَلِقٌ بِقَلبي* كَما عَلِقَت بِأَرشِيَةٍ دِلاءُ

لَها حُبٌّ تَنَشَّأَ في فُؤادي* فَلَيسَ لَهُ وَإِن زُجِرَ اِنتِهاءُ.

لا وكلا !

انتبهوا للخطر المحدق بدولتكم أيها المواطنون!

كونوا من المجابهين لهذا الخَطر الذي يداهمنا ويَحيق بنا، والذي يُهدِّد لُغتَنا، عليكم أن تحملوا رسالة قويَّة لرَفْع معنويات المواطنين من أجل المحافظة على لُغتهم.

ولن يكون ذلك إلا بجعل مقررات كبيرة ، في كل سنة دراسية من مختلف فنون هذه اللغة ، وفي جميع المؤسسات التعليمية ، وحث التلاميذ والطلاب على دِراسة الشِّعر لغةً وعاطفةً، فمَن قرأ الشعر بعاطفته ولُغته، سيتبيَّن له جمالُ العربية وعذوبتها ، وكمالُ معانيها، ولنسعَ لبِناء جيلٍ صلب قادرٍ على تحدي الصعوبات، وحماية لُغته ، وأمَّته ومجتمعه.

إن سياسة الإقصاء التي ينتهجها بعض عملاء الغرب من شعبنا وحكومتنا يجب التصدي لها ، والوقوف أمامها بعزم وحزم شديدين .

لاينبغي السكوت على هذا التجني السافر في حق شعب مسلم بأكمله ، ولا الركون للانسلاخ من حضارته ، وثقافته العربية والاسلامية .

عيب علينا شعبا وحكومة أن نرضى باغتصاب لغتنا ، أو بممارسة العبودية الفكرية والثقافية تجاهنا.

بل علينا أنعتز ونفتخر ونتشرف بأن جعل لغتنا العربية التي سجلت من أفضل لغات العالم ، وأجملها كما شهد بذلك الداني والقاصي ، ومن تلك الشهادات نورد هنا آراء لبعض الباحثين الغربين والمستشرقين من أهمها :

قول المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون :

" استطاعت العربية أن تبرز طاقة الساميين في معالجة التعبير عن أدق خلجات الفكر سواءً كان ذلك في الاكتشافات العلمية والحسابية أو وصف المشاهدات أو خيالات النفس وأسرارها.

واللغة العربية هي التي أدخلت في الغرب طريقة التعبير العلمي، والعربية من أنقى اللغات، فقد تفرّدت بتفردها في طرق التعبير العلمي والفني..."

وفي سياق الحديث عن معاجم اللغة العربية وشموليتها يقول المستشرق الألماني أوجست فيشر :

" وإذا استثنينا الصين فلا يوجد شعب آخر يحق له الافتخار بوفرةِ كتبِ علوم لغته، وبشعورِه المبكرِ بحاجته إلى تنسيقِ مفرداتها، بحسب أصول وقواعدَ غيرَ العرب".

وفي نفس السياق يقول هايوود :

" إن العرب في مجال المعجم يحتلون مكان المركز، سواء في الزمان أو المكان، بالنسبة للعالم القديمِ أو الحديثِ، وبالنسبة للشرقِ أو الغربِ".

ويؤكد ذلك المستشرق ألفريد غيوم عن العربية :

" ويسهل على المرء أن يدركَ مدى استيعابِ اللغةِ العربيةِ واتساعها للتعبير عن جميع المصطلحات العلمية للعالم القديم بكل يسرٍ وسهولة، بوجود التعدد في تغيير دلالة استعمال الفعل والاسم".

ويصف الفرنسي رينان معجزة هذه اللغة الخارقة بقوله :

"من أغرب المدهِشات أن تنبتَ تلك اللغة القومية وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحاري عند أمة من الرحالة، تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرةِ مفرداتها ودقة معانيها وحسنِ نظامِ مبانيها، ولم يُعرف لها في كل أطوار حياتها طفولة ولا شيخوخة، ولا نكاد نعلم من شأنها إلا فتوحاتها وانتصاراتها التي لا تبارى، ولا نعرف شبيهاً بهذه اللغة التي ظهرت للباحثين كاملةً من غير تدرج وبقيت حافظةً لكيانها من كل شائبة " .

ورغم شهادة الجميع من علماء ومفكرين وفلاسفة وباحثين ـ كما لاحظنا في النماذج والأمثلة الآنفة الذكر ـ في علو شأن هذه اللغة العظيمة ، ومكانتها وأهميتها وشموليتها وسعتها وتميزها عن سائر لغات العالم ؛

فإن المواطن الوحيد الذي سلبت إرادته وهويته العربية والثقافية دون مقابل ، وحتى داخل دولته ووطنه، وخارجه ، هو المواطن الموريتاني الذي تجده يفضل دائما التحدث والتعامل بلغة غير لغته الرسمية ...إن هذا لشيء عجاب!

لم نر شعبا يفضل التعامل بلغة غير لغته الرسمية، ولامولعا بغيرها، إلا الشعب الموريتاني ، فيفضل لغة المستعمر؛ فلا تجد منه مثقفا ، ولا أميا إلا ويحاول استخدام العبارات الفرنسية الفاسدة ، والمكسر أحيانا .

وكان في غنى عن ذلك فلغته الرسمية هي لغة القرآن ، وهي من أجمل اللغات وأشملها ، والاعتناء بها اعتناء بالدين ، وخدمة للإسلام الحنيف وقيل فيها ماقيل من مدح وإطراء .

ألم يدرك المواطن أن اللغة العربية حارت العقول في جوهر كنهها ، وحازت مزية السبق في الإبداع والحسن والجمال وهي المقصودة بقول الشاعر:

إن الذي ملأ اللغات محاسنا * جعل الجمال وسره في الضاد.

لماذا يتم خرق الدستور بهذه البساطة ، ويتم السكوت على ذلك الفعل المشين من طرف قيادات البلد وساساته ؟

لماذا تكون جميع الوزارات - إذا ما استثنينا وزارة العدل - إداراتها، ووثائقها ورسائلها وتقاريرها وكافة سجلاتنا المؤرشفة باللغة الفرنسية ؟

إنه أمر مؤسف ومخجل حقا !

ألم تكن فرنسا منحتنا الاستقلال ، وكتبنا دستورنا الخاص، وحددنا فيه لغاتنا الوطنية ، ولم تكن تلك اللغة التى سيطرت علينا من ضمنها ؟

لم يكن لذلك من سبب أو مبرر سوى التبعية العمياء ، والولاء التلقائي ، وعدم الشعور بالذات تجاه الأجنبي ، وعدم الاستقلال في الرأي والسيادة .

لماذا الهرم الأعلى للسلطة يتحدث عن الديموقراطية ، ودولة المؤسسات ،وضرورة الالتزام بالقوانين والدساتير المعمول بها ، ويتشدق بذلك أمام العالم وفي نفس الوقت يقع في أكبر عملية خلط مربك ، ومغالطة مكشوفة ، وخرق دائم للمادة السادسة من الدستور التي تعكس أمام العالم وحدتنا وسيادتنا وهويتنا العربية .

ماهذا التناقض والاختلال ؟

إنها السخافة والعجز الكامل عن التطبيق للقانون،

وعدم القدرة التامة على احتواء الجميع ، ولم الشمل ، والتكاتف ، والتوحد ؛ ولن تتحقق وحدتنا الوطنية ، أو تذوب الفوارق الاجتماعية بيننا إلا بتوحيدنا على هذه اللغة؛ لأن هناك مبدأ معروفا ، من المبادئ المسلم بصحتها ونجاعتها ، ومفاده أن وحدة اللغة دافع رئيسي للوحدة الوطنية: لذلك حفاظا على الدستور ، وتأكيدا على اللحمة الاجتماعية ، وحثا على الوحدة الوطنية ، وسبيلا للقطيعة مع لغة المستعمر ؛ يجب على السلطات فرض هذه اللغة على الجميع ، وإنشاء معاهد هدفها فقط تدريس اللغات الوطنية كالعربية والولفية والسوننكية والبولارية، وتكون الدراسة في هذه المعاهد ملزمة لكل من يحمل الجنسية الموريتانية ، حيث يتم تأسيس برامجها أولا على تقديم دورات إجبارية في اللغة العربية، وبعد معرفتها ، وإتقانها _ باعتبارها اللغة الرسمية للدستور _ يتم تنظيم دورات في اللغات الأخرى الولفية والسنوننكية والبولارية.

وأخيرا ننبه إلى أننا لسنا ضد اللغات الأجنبية ؛ بل نشجع على دراستها ، ومعرفتها وقراءتها والاهتمام بها ، ونعتبر ذلك إضافة نوعية بالنسبة لكل مواطن، وتميز ملموس ، وزيادة كفاءة وثقافة ؛ وإنما نقف فقط أمام دراسة أي لغة من لغات العالم على حساب لغاتنا الوطنية.