الفيسبوك يساهم في كتابة تاريخنا

ثلاثاء, 2015-08-18 16:01

 

 

كلُّ صورةٍ من الصور الموريتانية القديمةِ تحكي قصة وتروي حدثا؛ إن لم يخطها قلم على ورق فقد سجلتها كاميرا وتركتها شاهدا على عصر ولى.

 

 

تنتشرُ اليومَ تلك الصور ذات الطابع التاريخي بكثرة على الشبكة الإلكترونية، ويعود أغلبُها إلى منتصف القرن العشرين وما تلاه من فترة استقلالِ البلادِ عن فرنسا. وبعض تلك الصور تم التقاطه في فترات قديمة جدا تعود إلى نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وقد صارت هذه الصور مادة مغذية لشاشة التلفزيونات المحلية، إلا أنه يتم بثها بدون تعليقٍ يذكرُ بل بالاكتفاء أحيانا بكتابة اسم صاحب الصورة. فلا أعرف، في غياب الشرح والتوضيح، كيف يفهمها المشاهد وما ذا تعني بالنسبة له، وهل يكون من الأولى أن تعطى ما تستحقه من تبيان وما تفيده من مضمون تاريخي؟

ينبغي في البدء التنويه بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، فله الدور الأكبر والقسط الأشهر في نشر الصور التاريخية الموريتانية، وتداولها بين المتصفحين، واستقطاب اهتمام القراء وتعليقاتهم. وفي بعض الصفحات بشكل خاص عناية بهذه الصور جمعا ونشرا وتغذية مستمرة، وخصوصا صفحة الشاب المهذب الأديب المختار ولد إبراهيم ولد السيد؛ فله في هذا المجال قصب السبق والجهد المذكور والعناية التي لا تقارن بغيرها، ويعرف ذلك كل من اطلع على صفحته الخاصة على هذا الموقع الإلكتروني التفاعلي. وفي يقيني أن تلك الجهود التي بذلها المختار وغيره في الحفاظ على هذا الجانب من تراثنا، ونشرهم مئات الصور التي تغطي كافة ولايات الوطن عبر صفحات الفيسبوك وفي المدونات أمر مفيد وسعي مشكور وخدمة لتاريخنا.

 

"اعگيْلت أم رُكبَة" وتوقيع استقلال موريتانيا

 

من بين الصور التي استوفقتني صورة توقيع وثيقة استقلال موريتانيا تحت الخيمة، وهي صورة تجسد حدثا مؤسِّسًا من حوادث تاريخنا المعاصر؛ ولا أظن أنه وقع في تاريخ إحدى الدول العربية أو الإفريقية أن تمت مراسيم توقيع استقلال أي بلد تحت خباء في فضاء صحراوي متسع.

على ربوة "اعگيلت أم رُكبَه" وفي خيمة من القماش "الشراويط"، وبكل بساطة وسلاسة، جلس وزير الاقتصاد الريفي السيد أحمد سالم ولد هيبة رحمه الله تعالى وهو يحرر محضر وثيقة الاستقلال، وإلى يمينه وزير التعليم السيد محمد المختار ولد اباه أطال الله بقاءه، وإلى يساره الوالي الفرنسي ألبير موراغ رئيس مجلس الحكومة حينذاك. وإلى يسار محمد المختار نجد رئيس الوزراء في تلك الحكومة السيد المختار ولد داداه رحمه الله تعالى الذي سيصير بعد بعد وجيزة من توقيع هذا المحضر أول رئيس لموريتانيا بعد استقلالها. وخلفه وزير الإسكان والعقارات السيد الدي ولد سيدي بابا رحمه الله تعالى. أما الذي وضع جنبَه على الوسادة وهو ينظر إلى موراغ فهو: السيد أمادو ديوم ديادى صامبا با وزير الأشغال العمومية رحمه الله تعالى.

كانت مدينة نواكشوط قبل سنة 1958 بئرا تتوسط غورا متسعا يسمى "گود الحسيان"، ولم يكن نواكشوط نفسه، ومعناه ذو المحار، سوى بئر من تلك الآبار. لم يكن أحد يعرف أن "اعگيلت أم ركبة" ستصبح مقر رئاسة الجمهورية المعروف اليوم. ولم يكن أحد يتصور أن "احسيْ المحار" سيصير وسط حي لكصر قرب سجن بيلا. ومن منا كان يتصور أن "أيْرْوَارْتْ المَزاگي" سيطلق عليها في يوم الأيام "صكوكو"! وها هو "اعْلَيْبْ الْفَاعْ" يصبح الجانب الشرقي من مدرَّجِ مطار نواكشوط الدولي، وعلب "انْيَبْرَشْ" الواقع شرق "اعْلَيْبْ الْفَاعْ" صار وسط حي بوحديدة. أما ربوة "ينْبِشْ" فصارت نهاية تفرغ زينة بجانب مركز البث الإذاعي والتلفزيوني "صَانترْ أمَتَيْرْ". وصارت "تامورت لحماميات" مكانا للمخبزة الشهيرة في مقاطعة الميناء بشمال نواكشوط. وانظر إلى "طرفاية المنصور" على الشاطئ الأطلسي وقد أصبحت منتجعات وأماكن استراحة. وذلك هو "أجَوْك" وكان ريعة صغيرة بجنب "تامورت امزيلگه" يصبحان الحي الساكن ودار النعيم.

أبدع محمد ولد هدار الكبير حين ذكر بعض تلك المواضع وخصوصا الأماكن التي تقع شرق نواكشوط والتي ما زال بعضها محافظا على اسمه مثل توجنين، وبعضها لم يعد يعرف باسمه مثل "اعگيلت اهل الحاج" إلى الجنوب الشرقي من توجنين و"افريشيت أولاد دليم" القريبة من تنويش.

 

ازْعَمْ يَعَگْلِي گدْ امنيْنْ ۞ اتشوف اعگيلتْ مَارِيَّ

يطرَ شِي والل توجنين ۞ ما كان اگبَلْ بين أيْديَّ

وازعَمْ لوْجادْ اعگيلت زادْ ۞ أهل الحاج امعاهم مِعادْ

هاذَ ماهُ شِي يالوجاد ۞ ويلَ جيت الْ لحماميَّ

أزعم گاعْ إعود التفگاد ۞ ذاك الْ كان إحانِي بيَّ

ويلا عاد احزيمِي ينزادْ ۞ لا جوليتْ افْرَيْشِيتْ أولادْ

ادليمْ ءُ جَوْكْ ال عاد ۞ امسبب لحزيم اعلي

آن هاذ الساحل لواد ۞ فيه ارجلِي هاذِي هي

 

حضر الجنرال ديغول رئيس فرنسا وضع الحجر الأساس لمدينة نواكشوط وهو يتوسط الزعيمين المختار ولد داداه وحمود ولد أحمدو ولد المحيميد. فبدأت نواكشوط تكبر وتغيرت أسماء الأماكن وحل التحضر والتخطيط والبناء محل البداوة والترحال.

 

التعايش بين سلطة الإمارة وسيطرة الإدارة

 

من الصور التي استوقفتني كذلك تلك الصور التي تضم إلى جانب رموز المجتمع الموريتاني التقليدي من أمراء وشخصيات اجتماعية وازنة بعض الفرنسيين، وهو ما يمكن أن نسميه التعايش بين سلطة الإمارة وسيطرة الإمارة.

Photo 5 (1)

من بين تلك الصور النادرة: صورة تجمع أمير الترارزة أحمد سالم بن إبراهيم السالم بالرائد صربنيي (Commendant Charbonnier). ويعرف ابن إبراهيم السالم في الكتابات الفرنسية بأحمد سالم الثالث، إذ سبقه للإمارة عمه أحمد سالم بن محمد الحبيب وابن عمه أحمد سالم بن اعلي. وقد عرف عهده اكتمال السيطرة الفرنسية على موريتانيا. وكان أحمد سالم بن إبراهيم السالم شهما جليلا جميل المحيا عادلا محببا كريما حسن الخلق كثير المدائح. وممن مدحه الفنان الأديب ابَّفالْ ولد محمادو رحمه الله بقوله:

 

وصف أحمدْ سالم گال حدْ ۞ عنُّو شـافُو باخـلافُو

وصف أحمد سالم ما إگَدْ ۞ حـد إكَـولْ انُّو شـافُو

 

أما صربنييه فكان حاكم منطقة المذرذرة في عشرينيات القرن الماضي وهو صاحب الإحصاء الشهير عند سكان المقاطعة بـ"حسبة صربنيَه". حيث أحصى أنعام السكان من إبل وبقر وغنم وحتى الحمير أحصاها؛ وذلك لجباية الضرائب أو ما يعرف بـ"العشور"، وكان صارما في تلك الجباية. وفي فترة صربنيي جاء الشيخ حماه الله للمذرذرة وقضى بها زهاء أربع سنوات.

وفي صورة أخرى نجد السيد الفاضل عبد الله بن الشيخ سيديا وأخاه سليمان رحم الله الجميع في جمع من الأعيان الأفاضل أمام خيمة أهل عبد الله في عين السلامة إلى الشمال الغربي من بوتلميت. ومعهم بعض الإداريين الفرنسيين.

كان عبد الله بن الشيخ سيديا المولود سنة 1891 من أجل وأعظم الشخصيات الموريتانية؛ فأدواره السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية مشهورة مشهودة. فالشيخ عبد الله مثلا هو مؤسس "المعهد العلمي" في بوتلميت الذي تخرج منه معظم الرعيل الاول من نخبة العلماء وإطارات موريتانيا. كان عبد الله ذائع الصيت وموعودا ومنفقا ومثابة لطالبي الحاجات ومأمنا للخائفين وكان من مؤسسي الدولة الموريتانية ومن المشرفين على استقلالها عن فرنسا وقد توفي سنة 1964.

ومن بين هذه الصور الجميلة صورة تجمع الوزير والزعيم السياسي والاجتماعي حمود ولد أحمدو ولد المحيميد والتاجر والوجيه الاجتماعي همدي ولد محمود الشهير بإنفاقة وكرمه وعطفه على الضعاف، وفي الصورة كذلك الرئيس المختار ولد داداه والنائب سيدي المختار ولد يحيى انجاي وعيدة رحم الله الجميع فضلا عن الفرنسييْن الوالي الفرنسي بييري مسمير وخلفه الوزير كومبانيي.

ويعتبر همدي ولد محمود من أبرز تجار موريتانيا في القرن الماضي وكان له أيادي بيضاء ومكارم شهد به بها القاصي والداني. بنى المساجد وكفل الأيتام وواسى الأرامل، وكان رحمه الله تعالى شخصية من أبرز شخصيات موريتانيا في القرن الماضي.

صور تحكي أزياء المجتمع وزينته

هناك صورة أراد ملتقطها أن يعطي ملامح من الزينة التي كانت الموريتانيات يتحلين به. وحلي النساء الموريتانيات متنوع ويكون بحسب الأسنان. ومن أبرز حلي الموريتانيات الخرز وأجوده يسمى "الحر" وهو ثمين غاية. ومصدر هذا الخرز يعود إلى التبادل التجاري بين الموريتانيين والأوروبيين وخاصة البرتغاليين الذين كانوا يتاجرون في الخرز الزجاجي المجلوب من مدينة البندقية الإيطالية في القرن السادس عشر الميلادي. ومن أشهر أصنافه "الحب الأرگط" أي الأرقط إشارة إلى تعدد ألوانه، ومن أنواعه: "ظهر الفكرون" تشبيها بظهر السلحفاة وما عليه من خطوط مربعة متداخلة في تنسيق بديع. ومن أنواعه أيضا "عين افْعيْنْ" ويسمونه المرْفِي لما فيه من خطوط وألوان. ومن الخرز الحر ما لونه واحد مثل "حب الحجارْ" وهو أحمر ويسمى الداودي، ويزعمون أنه من صناعة داود عليه السلام الذي ألان الله له الحديد، وذلك وهْمٌ، فالخرز صناعة إيطالية. ومن الداودي ما هو مدور الشكل ومنه مستطيل ويسمى الأصباع. ومن الخرز الحر "النيلْ" وهو أزرق اللون. والحب الأحمر ومن أنواعه البلح والمرجان. ومن الخرز الحر ما لونه أصفر ويسمونه "حب الگريه". وهنالك ما هو دون ما ذكر في الجودة مثل "الميالْ" ولونه أصفر. والعقيق والكوسْ والشعِيلْ أنواع تدخل في تفصيل العقد وتنظيمه. والخرز قديم في تاريخ موريتانيا فقد تحدث البكري في كتابه نزهة المشتاق في اختراق الآفاق عن أن قبائل لمتونة عندهم خرز يسمى "حجر البهت". فيقول الإدريسي متحدثا عن الشاطئ الموريتاني ويطلق عليه بحر الظلمات: "ويوجد أيضاً في ساحله حجر البهت وهو مشهور عند أهل المغرب الأقصى ويباع الحجر منه بقيمة جيدة لا سيما في بلاد لمتونة. وهم يحْكون عن هذا الحجر أن من أمسكه وسار في حاجة قضيت له بأوفى عناية وشفع فيها. وهو جيد عندهم في عقد الألسنة على زعمهم. ويوجد أيضاً بساحل هذا البحر أحجار كثيرة ذات ألوان شتى وصفات مختلفة يتنافسون في أثمانها ويتوارثونها بينهم ويذكرون أنها تتصرف في أنواع من العلاجات الطبية الفاعلة بالخاصية." وهي عادات لمتونية قديمة ظلت الموريتانيات يحتفظن بها في الوقت الراهن.