ليس هناك جديد في الأحداث الفرنسية الأخيرة، مشهد الموتى والجرحى والدم المسفوح ظلما وعدوانا أصبح شيئا مألوفا لإنسان القرن الواحد والعشرين، والدم هو الدم، والمنفذ واحد هو "الانسداد"، الذي قد تمثله حركة متطرفة مثل داعش أو نظام متسلط مثل النظام السوري أو دولة مستكبرة كفرنسا أو أمريكا أو روسيا، هذه حقيقة ليس معناها الاستمتاع بجراحات الآخرين، فليس ذلك من العقل ولا من الدين، ولكنه وضع للأمور في نصابها دون تهويل ولا تطفيف.
أزمة العالم اليوم هو سيطرة الدعاية السياسية على الأحداث، هي سيطرة تمنع من سبر أغوار الأحداث قصد استلال جذورها الغائرة التي يتداخل فيها السياسي بالاجتماعي ويتداخل الاثنان مع الديني والثقافي، لكن القوي دائما يسعى لإلباس الضعيف ثوب الجريمة التي اقترفتها يداه.
يقول الكاتب الأمريكي إيريك هوفر إنه لصناعة قناعة مزيفة نحتاج لكثير من المبالغة وكثير من الحذف، وهي تقنية مؤداها تغييب الحقيقة ووضع أي شيء آخر مكانها، وردة على قبر جندي مات حاملا بندقيته الظالمة ونسيانا لضحيته الأعزل الذي مات برصاصه، هو نفاق الجنائز والموتى والفجائع الملونة،
قبل المحاججة، أريد أن أقول إنه لا تاريخ للمسلمين في التطرف الديني ولا مبادئ في دينهم تؤسس له ولا ترعاه ـ رغم كل ما يقال ـ فالقرون التي حكمْنا فيها العالمَ كانت هي العصور الذهبية للتسامح الديني - كما شهد بذلك مفكرو الغرب نفسه -، وكما شهدت به كتب التاريخ وآثار الكنائس ودور العبادة، وكما تشهد به الأحياء السكنية التي ما تزال تسمياتها تشهد بذلك في عريقات مدننا مثل فاس وبغداد ودمشق وغيره.
هذه حقيقة لا مراء فيها ـ وبالمناسبة علماء الإسلام هم أول من تحدث بعمق وصدق عن حوار الأديان كما فعل ابن حزم وغيره ـ، لكن القرن الأخير الذي شهد نهضة الغرب وانحطاطنا، استعاد فيه الغرب ذاكرة الحروب الصليبية، فبدأ بالاستعمار والتفكيك والغزو الفكري.
وحين كانت معارك الحروب الصليبية على أشدها لم يهدم المسلمون كنائس القدس ولا غيرها من المدن، ولم يعتقل نصراني مقيم في ديار الإسلام، لكن جالياتنا المسلمة المسالمة في أوربا تخاف اليوم من ردة فعل متوقعة تطالها سجنا وطردا ومضايقة، وكان أول تصريح لهولاند هو أنه سيحارب الإرهاب في فرنسا وسورية معا، واليمين الفرنسي بدأ يدق طبوله لإغلاق المساجد والهيئات الإسلامية.
هناك حقائق أخرى يلزم التذكير بها في أتون العزاء والحداد وإعلان الحرب والتهم الجزافية:
بحساب الأرقام كم تساوي 100 ألف قتيل سوري على الأقل في مقابل أقل من 200 شخص كانوا ضحية أحداث نوفمبر في باريس؟ سؤال محرج للإنسانية، أم أن الطبقية تجاوزت العرق واللون إلى الدم، هل هناك دماء أكثر زكاء وطهرا من دماء أخرى أم أن الدم البشري هو الدم!
ما زلنا نتذكر المسيرة العالمية التي جابت مواكبها المهيبة شوارع باريس أيام هجمات صحيفة شارلي هبدو، شاركنا فيها كلنا نحن المسلمين، داخل فرنسا وخارجها، قادة وجماهير، فهل ذرفت الحكومة الفرنسية دمعة ولو تمساحية على دمنا المسفوك وأجسادنا الممزقة وجثث أطفالنا الغرقى، هل أخذ البرلمان الفرنسي دقيقة صمت ليقرأ أي شيء ـ ولو قصيدة «البحيرةَ» الغرامية لألفونس دو لامارتين التي ألهمته فتاته الانجليزية ـ على أكثر من 2000 قتيل اجتاحتهم دبابات ورشاشات الجيش المصري ضحوة من نهار في ميدان رابعة العدوية، لا يهم المهم أن نشعر أنكم تتذكرونا ولو رقصا على الجراح.
هل خرج الشعب الفرنسي ـ ذو المشاعر الرومانسية العريقة ـ ليواسينا في مآسينا المتتابعة كل حين، هل أحسسنا أن شركة كوكل وتطبيق الفايسبوك يشعر معنا بالحزن والفجيعة على مجازر السيسي وبشار، وحتى على مجازر داعش في ديارنا المسلمة.
تظل أوروبا سادرة في انتهاب طيبات مباهج حياتها الفاتنة حتى إذا دميت إحدى أصابعها سألتنا أن ننسى جراحنا العريضة لنبكي جرحها الطفيف، أي إنصاف في هذا!
أو ليست فرنسا الحالية هي التي يمنعها كبرياؤها من الاعتذار لـمليون شهيد في الجزائر سقطوا تحت نيران عنجهية جمهورياتها الخمس، هل تتذكر عجائز فرنسا اليوم كيف كن يستقبلن أزواجهن القادمين من المستعمرات الفرنسية في المغرب الأقصى متلهفات إلى قصص القتل والإذلال التي كانوا يمارسونها في تلك المستعمرات! إن الذاكرة لا تموت، ولكن الإنسان قد يوقف تفعيلها فترة.
العالم كله مستنفر ضد "الإرهاب"، وضمائره نابضة بالإنسانية حين يكون المسفوك دم غير عربي، أما حين يسفك الدم العربي فستظل دورة الحياة عادية، وكأن الذي مات حشرة ضارة، الفيس بوك يطمئن كل واحد منا على سلامة أصدقائه في باريس.
سيدي مارك، للأسف ليس لدي في باريس صديق واحد، كل أصدقائي في حلب وإدلب والغوطة الشرقية ودمشق، وكثير منهم في قوارب مطاطية في عرض البحار فهل لديك عنهم أي خبر!
داعش تقتلنا جميعا بدأت بتفجير مساجدنا وساحاتنا، وتقتل منا يوميا أكثر مما قتلت من الفرنسيين والأوروبيين والأمريكيين، وهي لا تمثل إلا نفسها أو من صنعها ومولها ورعاها، وليس ذلك المسلمون قطعا، بل الحقيقة المرة أنها صنيعة غربية خالصة، فكيف يتحمل الآخرون مسؤولية ضبع عضت من رباها في بيته ووفر لها القوت والظل!
غريب هو الغرب في تعامله مع عالمنا العربي والإسلامي، يضايق مصلحيه ومعتدليه ويحملهم مسؤولية تصرفات الطائشين والخارجين على مجتمعاتهم، والأغرب من ذلك أن تجد بيننا من تنطلي عليه هذه الألاعيب، ولكنها عقدة المغلوب المنهزم، كلما عثر هازمه وقف يتوسله أنه ليس الذي وضع الحجر في سبيله ولا من حفر الحفرة في الطريق.
ما يقع في بلادنا سببه الغرب، وما يقع في الغرب سببه الغرب أيضا، فليبك الغرب على خطاياه وليتب منها أولا، وحينها سينعم العالم بالسلام.
أما أن يستفزنا بتهم مساندة "إرهاب" هو من مارسه وهو من صنعه بيننا وموله ورعاه، وما يزال يفعل ذلك، فتلك رذيلة خلقية واستكبار ظاهر.
شخصيا، لست المنفذ لعمليات باريز، ولو كان لي من الأمر شيء لما حصلت وما حصل غيرها، فأنا لا يفرحني موت إنسان بريء كافرا كان أو مسلما، وأكره داعش كما أكره أن ألقى في النار، ويستوي عندي أن يموت البريء بيد داعش أو بيد متطرفين مسيحيين أو يهود، فالدم الحرام حرام، وحق الحياة مبدأ كل الشرائع السماوية، ولكن مشاعري ودموعي لا تكفي لبلسمة جراحي النازفة في كل شبر من الأرض، سورية، العراق، فلسطين، اليمن، الروهنجيا في مينمار، بفعل أغبياء في الغرب، فكيف أبكي جراح آخرين، الأقربون أولى بالمعروف.
الأستاذ / الشيخ أحمد البان - كاتب وشاعر